Sunday 8 May 2011

عبد الحكيم قاسم



ملامح تجربتي الروائية

أتصور أن ذلك الجدل المحتدم بين الواقع والحلم هو اللحظة الأولى التي تتولد منها شرارة الكتابة ، وأتصور أن ذلك الجدل المولد لشرارة الخلق لابد كائن خلف كل مقدرة إبداعية في أي لون من ألوان الإبداع الفني.
هذا الجدل عندي كان بين عالمين ؛ الأول قاهر لكنه واقع فهو ضرورة ، والثاني ملاذ ، لكنه مهرب فهو حلم . ولقد كان التعرف الأول على الحياة صارما ، وإذ تحققت من قبح وحزاوة وتعقيد الضرورة ، فهي معطي له سمات حضرية ، وتحققت من هرم وتهالك ومحدودية الملاذ ، فهو معطى له سمات سلفية ريفية ثم بدأت أتعامل مع حتمية التقلب بين عالمين ، بين قريتي حيث ولدت ونشأت ، وبين المدينة حيث أتعلم ثم أعمل.
كان قدري أن تحملني القطر من قريتي ، من الأجواء الفسقية البطيئة الإيقاع الموصولة بالأعلى حتى السماء ، وبالأسفل حتى أول الزمن والتاريخ . تحملني القطر إلى المدينة ، إلى وقدة الضوء حتى افتضاح حنايا الضمير ، والصخب حتى ما يسمع همس الروح ، تخبطني اللوعة والاغتراب ، أسرع عائداَ إلى ملاذي . هناك في القرية أجد أنه على لساني لحن من رطانة المدينة ، بل وفي قلبي شيء مما تجدف به . أكون مرة أخرى غريباً . أكتشف أن صلصلة حديد القطار في القطار هو قدري أنا ، هو صوت داخلي أنا . هو خلا سيتي وانقسام ولائي .
لكني رأيت أن غربتي ليست قدري أنا فقط ، بل قدر كل من رأيت وعرفت من زمان رحلة القطار ، بل قدر ناسي جميعهم . وأننا تحملنا القطر الدائبة في كدح لا يكل على أرض مصر في رحلة عذاب بين جحيم الواقع المروع ولا جدوى الحلم المستحيل . وأننا في ترحلنا هذا دائخون مخبوطون يسهل قيادنا ، يسهل أن يقال لنا ، وأن يقال علينا . ونحن ننظر مفتوحي العيون بلهاء .
علمت أن نجاتي أن يعلو صوت داخلي على عنف هذه الضجة .فهي لحظة تجاسرت فيها على أن أسأل لماذا؟ وهي لحظة لا يرها الإنسان ــ في تصوري ــ إلا ببصيرة سياسية ، واسمحوا لي أن استبق السطور وأقول أنه لا يوجد فن دون عقيدة سياسية ، هذا إذا ما رأينا في السياسة شيئاَ أشمل من حمل بطاقة حزب ، القبول والانضواء ، الرفض والتظاهر ، أو أي لون آخر من ألوان الممارسات السياسية المعتادة واللازمة ، والتي قد أمارسها أنا كانسان مسؤل عن إنسانيتي وعن انتمائي لوطني.

كان مدخلي إلى الفن إذا لحظة واجهت فيها هذا الانقسام في ذاتي مواجهة متمردة عليه . ولا أقصد بالفن هنا مجرد الجلوس إلى طاولتي ساعات محددة أنجز فيها كتاباَ ، إنما أقصد حياة كاملة تكون لحظات الكتابة فيها ثمرتها القريبة . فإنني أحيا وأنشط وأضطرب مع الناس فيما يضطربون وأجد أن ثمة خلف ذلك كله نية مخبؤة تحركني إلى جمع مادة جيدة لكتاب جيد .
والفن بهذا يكون أداة تعرف . بدأت أعيد اكتشاف عالمي وأنا أملك قلبا وبصراَ وبصيرة . وبدأت أعيش المحنة متجددة في كل لحظة . إن ذلك الانقسام وارد على كل شيء . أن كان الناس يغرقون حيرتهم وتمزقهم في ضجة مجنونة لا تتردد ولا تتريث لتعقل. مكبرات الصوت تحمل الآذان والمواعظ والخطب السياسية والبلاغة اللغوية .المواصلات الخربة أداة لبث الرعب أكثر مما هي لتوصيل الناس . الماكينات العتيقة تنتج الضجة وتفرز العادم والأخطاء والصدفة والحوادث أكثر مما تنتج شيئاَ نافعا .وبرغم هذه الضجة كان علي أن استخلص إمكانية العلم بالعالم المحيط علماَ يعين على الاختيار . ثم إذا كان الاختيار كان الالتزام بهذا الاختيار التزاماَ لا ينفي عن الاختيار ارتباطه الجدلي بالعالم يتغير معه ويتطور معه في حيوية.
ولقد رأيت أن الواقع والحلم في عالمي نقيضان في مركبة سمتها الأساسية العجز والقصور . من حيث أن الحلم في عالمي هو تشبث بالمستحيل ناشئ عن اليأس من الواقع . وممارسة الواقع يشلها التحذر الناشئ عن التشبث بحلم مستحيل . ووجود النقيضان بهذا الوصف معاَ لا يخلق إلا مركبة سمتها الأساسية العجز .
لكن انحيازاَ إلى الواقع ورفضا للحلم كان لدي منذ البدء وهو ينمو ويضطرد رغم بشاعة الواقع وزيادة تعقيده وتخلفه كل يوم . وهو انحياز وارد على كل شيء حتى ملامح الوجوه وأنماط السلوك وجرس الكلمات وتراكيب الجمل وتطور الحدث ومصائر وأقدار الشخصيات في العمل الفني والجو العام الذي يحيط بهم وذلك الإيقاع بعيد الغور الذي يسمع في الخلفية البعيدة وفي لون الأفق الذي يرى في الأمام بعيداَ وفي درجة الضوء فيه .
وأقول عن هذا الانحياز أنه وجهني إلى منابع محددة للتجريب وإلى طريقة محددة لتلقي التجربة وعلى منهاج خاص في صياغة ما تلقيته من تجارب وانه شكل مزاجي في الانفعال بتجاربي وأنه أمدني بالعدد . والأدوات والخطة لكي أحول انفعالي إلي موقف ثابت منفصل عني .... هو الكتاب .
بازدياد وعي بذاتي وبالحياة من حولي عرفت أن انحيازي هذا لم يسقط علي من السماء ولم أوت به نبوة . إن الحقيقة البشرية حقيقة ايجابية . وان ناسي في حقيقتهم يرفضون هذا الانقسام والتمزق وأنه في لحظات الثورة في تاريخنا نجحت الجماهير في أن تعلي ذواتها عن هذه السلبية والانحطاط . وان تتألق في التصدي للواقع. بجديه غير مخدرة . وأن تضع الحلم . أي الماضي السلفي . في مكانه الحقيقي لا كمهرب وملاذ ، بل كقدرة تضاف لمضاعفة الايجابية في التصدي للواقع . وأنه في عصور النكسة والانحطاط يسيطر مرة أخرى هذا التمزق لكن دون أن تعود الجماهير القهقرى إلى ذات النقطة التي بدأت منها أبداَ .
وأن دور السلطة الزمنية والدينية في مجتمعنا هو محاربة الثورة بإدامة انقسام وجدان الجماهير . هي في ذلك تمارس دجلا يتراوح بين رشوة هذا النزوع إلى الحلم وبين التظاهر بمحاولة التغلب علي مرارة الواقع . أو يتقلب بين اليأس من استحالة الحلم وبين كراهية الضرورة التي تملي حتمية مواجهة الواقع .
ولحظة ميلاد الكاتب تعني لحظة ميلاد موقف معارض للسلطة في عالمنا إذا ما وضع الكاتب يده على ذلك العنصر المتميز في البشر الذين يعيش قضية الكتابة ألا وهو . إصرار هؤلاء الناس علي أن يعيشوا واقعهم وأن ينتصروا عليه وألا ينصرفوا عنه هروباَ منه إلى ملاذ حلمي سلفي أو ديني ، وأن الماضي هو جزء هام وحيوي من الحاضر يثريه ويعممه ويوسع آفاقه لا يخصيه ويكبله ويقعده .
وقد حاولت أن أقدم ذلك العنصر من الناس ، أي أن أصور وعيهم هم وانحيازهم هم لا أن أركب وعي أنا على واقعهم في تكوين وعظي علوي شائه .

ولأضرب على ذلك مثلا من قصتي الطويلة المهدي التي نشرت في السفير البيروتية في يوليو 1978 حين أقبل الناس الفقراء من أهالي محلة الجياد على المعلم عوض الله الذي أجبرته الجماعة الدينية في البلد بكل الوسائل على إشهار إسلامه ــ يقبلون يده باعتباره قديساَ ،الحقيقة الأعمق في القصة أنهم لم يروا فيه كافراَ هدي إلى الإسلام ، بل بشراَ رأوا على وجهه مقاومته لهذا الواقع حتى يكاد يقع ميتاَ ، والمهدي في هلوسته لم يري فيهم جمهورا مسلماَ فرحاَ بدخوله الإسلام بل شعب كنيسة قريته الذي ما زال يبكي صلب المسيح وهذا يتأتى من أنني أحاول إن ألتصق بواقع الناس التصاقاَ حميماَ حتى معرفته معرفة تامة ولو كانت هذه المعرفة تقتضي فك هذا الواقع وإعادة تركيبه لاستكناه كل أسراره واكتشاف عجزه وتكبله بالحلم السلفي .

من ناحية أخرى أحاول الالتصاق بهذا الحلم السلفي والاقتراب منه بلغته وأسراره وطقوسه ورؤية صورة الواقع القاهر فيه ، أي باعتباره حلم كابوس مشوه لواقع قبيح بشع .
ومن هذين الجانبين أدع الانحياز الذي أعرفه لدى الناس يظهر ظهوراَ طبيعياَ لا أركب على الحدث وعيي أنا الذي حصلته نتيجة خبرتي بحياة هؤلاء البشر الذين أكتب لهم وأكتب عنهم ، بل أن هذا الخطاب قد يصادف غير المعنيين بقدر ما يحيد عمن هم مدار الفضية.
الأمر أن هذا التقسيم هو في الحقيقة شيء توضيحي وتعليمي . فالمجتمع رغم انتسابه لطبقات وفئات وتجمعات هو في نهاية الأمر حقيقة متجانسة ، تجانسها يرجع على الأقل إلى الوجود معا في مكان زمناَ طويلا . وهذا التجانس ينعكس في ما يمكن أن نسميه ضمير هذا المجتمع وأنا ككاتب جزء من هذا الضمير الذي له تجانسه ككل رغم أن التنافر بين أجزائه قد يكون عميقاَ عمق الفروق بين الفقراء والأثرياء في مجتمعنا . فانا لا أكتب

لأحشد الجماهير للثورة، بل اكتب لتكون كتابتي مساهمة في إجراء تحوير في ضمير المجتمع حتى يكون عكسا أقرب إلى الصحة لواقع أن فيه أكثر من 90% يعيشون أدنى من الكفاف.
على أن الطبقات الشعبية في مجتمعنا ليست بسبب الأمية تكوينا مصمتا لا تنفذ فيه إشعاعات جهود الكتاب الشرفاء.هذا تصور لقضية الأمية يعتمد في المحل الأول على مراجع أوربية ترى الأمية من خلال خبرتها بمجتمعاتها وقلة خبرتها بمجتمعاتنا. الأمي في المجتمع المتقدم صناعيا- والذي تكون معرفة القراءة والكتابة فيه ضرورة حياتية- هو شخص خارج عن المجتمع بسب نقص عقلي أو جسدي . في مجتمعاتنا ليست معرفة القراءة والكتابة ضرورة حياتية، وقد يتقدم الأمي في مراقي التطور الاجتماعي صعدا.هذا إلى انه لم يختر أن يكون أميا بل فرض عليه هذا وبقي شوقه لأن يعرف قائما.لذلك توجد دائرة المستمعين والراوي. وتوجد ما تزال الكتب الشعبية والسير والمناقب التي يتلقاها هؤلاء الناس والتي هي أعمق إنسانيا من الصحافة الدارجة وروايات الجنس والجريمة التي يقرئها الناس في أوروبا.هذه الدوائر القارئة المتلقية عندنا وإن لم تقرأ كتبنا إلا أنها حساسة للتغير الذي يطرأ على ضمير المجتمع لارتباطها به ببصيرتها لا ببصرها—فأنا لا أكتب لهؤلاء الناس مباشرة وإن كنت أتصور أن كتابي رصيد في حسابهم ولكن لا أفتعل أسلوباَ معقداَــكما روي عن أدونيس هناــ يأساَ منهم ، كما أنني لا أتعمد أسلوباَ سهلا لأصل لأوسع دوائر القراء ، بل اللغة عندي جزء من تجربتي الفنية تنمو طبيعياَ دون تكلف أو تعمد




. (الأدب – العددان الثاني والثالث عدد خاص عن الرواية العربية الجديدة- فبراير مارس 1980 عبد الحكيم قاسم-ملامح تجربتي الروائية ص127)